المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عباد الرحمن


ريحانة القلب
09-09-2022, 12:12 PM
http://investigate-islam.com/fwasel/2.gif

الشيخ: د. خالد بن حمد الزعابي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد،

فنلتقي وإياكم أيها الإخوة والأخوات في كلمة بعنوان: "عباد الرحمن"، نتأمل فيها آيات عظيمة من أواخر سورة الفرقان [63-76] بدأها الله تعالى بقوله: ) وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ ( [الفرقان :63]، وذكر صفاتهم العظيمة وأخلاقهم الكريمة التي كانت سببا في نيلهم شرف العبودية لله عز وجل، وهؤلاء المؤمنون عباد الرحمن هم أفاضل العباد وأكملهم، وهم إنما وصلوا لهذه المراتب العالية بسبب رحمة الله تعالى لهم، ولذلك قال عنهم: ) وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ ( [الفرقان :63]، فمن رحمة الله بهم أن خصّهم بهذه العبودية الخاصة، وهي عبودية الإيمان والطاعة والتعبد لله تعالى بشرعه، وهي عبودية أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ثم ذكر سبحانه صفاتهم التي هي أكمل الصفات، فلنتأمل هذه الأوصاف العالية التي ذكرها ربنا سبحانه وتعالى سائلين الله عز وجل أن يوفقنا للتحلي بها.

صفتهم الأولى هي السكينة والوقار، والتواضع لله تعالى ولعباده، فقد وصفهم جل وعلا بأنهم أهل وقار وسكينة وتواضع له ولعباده، وهم يعرضون عن سفه الجاهلين، ويدفعون سفههم بالتي هي أحسن، قال تعالى: ) وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ( [الفرقان :63]، فذكر سبحانه صفاتهم الفعلية بأنهم يمشون على الأرض هونا، مشية هينة لا مشية تشبه حال المجنون، ولا مشية المتسرع، وليس معنى ذلك أنهم لا يسرعون بل يسرعون في موضع الإسراع، ويخفضون في موضع الخفض، هونا متواضعين لله تعالى ولعباده، فالهون والسكينة والوقار صفتهم في مشيهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيتم الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم، فأتمّوا» ([1]) ، قد أشار سبحانه وتعالى إلى مكانة المتواضعين له في مواضع من كتابه كقوله تعالى: ) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( [القصص :83]، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ اللهَ أوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أحَدٌ عَلَى أحَدٍ، وَلاَ يَبْغِي أحَدٌ عَلَى أحَدٍ»([2]) ، يقول الشاعر:

تواضع تكن كالبدر تبصر وجهَه
على صفحات المَاء وهو رفيع

ولا تك كالدخان يعلو بنفسه
إلى صفحات الجو وهو وضيع

وذكر سبحانه من صفات عباد الرحمن وتواضعهم ذكر صفتهم القولية فقال: )وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ( ، فإذا خاطبهم جاهل خطاب جهل وأساء إليهم بالقول، فهم لا يقابلونه بمثل جهله بل يقولون سلاما، يقولون قولا يسلمهم من الإثم ويسلمون به من تبعة هذا الجهل، ويعفون ويصفحون، وهذا فيه مدح لهم بصفة عظيمة وهي صفة الحلم ومقابلة المسيء بالإحسان، والعفو عن الجاهل، ودليل على رزانة عقولهم، وهذا الذي أوصلهم إلى هذه المرتبة العالية.

وثاني صفاتهم التي مدحهم الله تبارك وتعالى بها المحافظة على الصلاة لا سيما قيام الليل، قال سبحانه: ) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ( ، فيعتنون بقيام الليل مع الإخلاص لله خضوعا وخشوعا ركوعا وسجودا، روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه كان إذا قرأ هذه الآية ) وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ( قال رحمه الله: هذا وصف نهارهم، ثم قرأ ) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ( قال: هذا وصف ليلهم([3]) ، فذكر سبحانه أن ليلهم خير ليل، فهم يبيتون لربهم بالليل في الصلاة سجدا على وجوههم، وقياما على أقدامهم، وإذا تأمل المسلم قوله تعالى: ) لِرَبِّهِمْ ( هذا فيه إشارة إلى إخلاصهم لله سبحانه وتعالى، فهم لا يقومون رياء ولا سمعة وإنما يقومون يتعبدون مخلصين لله وحده، وذكر سبحانه أمر القيام والسجود ونص عليهما لأن القيام فيه شرف بالذكر، فالمسلم المصلي والمسلمة المصلية الذين يقومون في الليل إنما يقرؤون كلام الله عز وجل، وهو أفضل قول وأفضل كلام، فلشرف ما يقرؤون في قيامهم ذكر الله عز وجل أنهم يقومون في الليل، وفي أمر السجود فهو أشرف بهيئته لأن الساجد أقرب ما يكون من ربه تبارك وتعالى، فلذلك ذكر ذلك سبحانه وتعالى عنهم فقال: )سُجَّدًا وَقِيَامًا ( ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»([4]) ، فعباد الرحمن من صفتهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما، ويطيلون القيام والسجود مقتدين بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يطيل القيام حتى تتفطر قدماه من طول القيام، وقد صلى معه ذات ليلة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو شاب فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وأطال القيام قال عبد الله: «حَتَّى هَمَمْتُ بأمْرِ سُوءٍ! قيل: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أجْلِسَ وَأَدَعَهُ» ([5]) ، والأحاديث كثيرة تدل على قيام النبي صلى الله عليه وسلم وعلى طول قيامه، ففي البخاري عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، فقيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: «أفلا أكون عبدا شكورا»([6]) ، فعباد الرحمن يبيتون لربهم سجدا وقياما مخلصين له في عبادته وطاعته، كما قال تعالى: ) كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *‏ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( [الذاريات :17-18]، وقال سبحانه: ) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ( [الزمر :9]، فهم يكثرون من صلاة الليل مخلصين لربهم متذللين له، كما قال عز وجل: ) تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ‎ * ‏ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( [السجدة :16-17].

وصفتهم الثالثة: خوفهم وإشفاقهم من عذاب النار، فهم مع أعمالهم الجليلة، وصفاتهم النبيلة مشفقون من النار، خائفون من عقوبة ربهم الجبار سبحانه وتعالى، فهم يلجئون إليه بالتضرع والدعاء أن يقيهم من النار ومن أسباب دخول النار، قال تعالى: ) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * ‏ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ( فمع كونهم يقومون في الليل ويجتهدون في العبادة والدعاء مع الإخلاص لله تبارك وتعالى، فإنهم يخافون من النار ويقولون: ) رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ( ، فهم يعلمون أن التوفيق بيد الله تبارك وتعالى، فيجتهدون في دعائه سبحانه وتعالى كما وصفهم ربهم عز وجل بأنهم بالأسحار يستغفرون، فيقومون آخر الليل يستغفرون الله عز وجل؛ لأنهم يرون أنهم مهما اجتهدوا في الطاعة والعبادة فهم مقصرون، فيكثرون من استغفار ربهم سبحانه وتعالى يقولون: )رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ( ، جهنم اسم من أسماء النار، ولها أسماء كثيرة نعوذ بالله منها، يقولون: ) رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ( فكأنّ عذاب جهنم مقبل عليهم، فيسألون الله أن يصرفه ويبعده عنهم ) إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ( ، أي: عذاب جهنم ملازم لها بمنزلة لزوم الغريم للمدين الذي يطالبه بالمال الذي أعطاه إياه، ثم قال الله عز وجل عن نار جهنم: ) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( في هذا ذمّ عظيم لنار جهنم، فهي ساءت مستقرا يستقر به الإنسان، وساءت مقاما يقيم فيه، فليست حسنة لا في مستقرها ولا في مقامها، ولا شك أنها لن تكون حسنة وفيها هذا العذاب العظيم المذكور في نصوص الكتاب والسنة، ووصف نار جهنم ضد وصف الجنة التي قال الله فيها: ) حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( .

وصفتهم الرابعة صفة عباد الرحمن: التوسط في الإنفاق بين الإسراف والتقتير، فهم يقومون بما يجب عليهم ويبذلون النفقات الواجبة والمستحبة، متوسطين معتدلين بين الإسراف والتقتير والتجاوز والتقصير، قال سبحانه: ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ( ، فهم ينفقون مع كونهم يتعبدون لله ويؤدون الفرائض ويقومون من الليل هم من أهل الإنفاق والبذل لكن إنفاقهم معتدل، لم يسرفوا ولم يقتروا، الإسراف الزيادة والإقتار النقص، فهم لا يسرفون بزيادة ولا يقترون بتقصير، فالإنفاق بين طرفين ووسط الأول: الإسراف والثاني: الإقتار وبينهما يقول سبحانه: ) وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ( ، فهم لا يميلون إلى جانب الإسراف ولا إلى جانب التقتير والبخل بل ينفقون بين هذا وهذا بحسب الحاجة، وهذا الفعل منهم وحسن التدبير ليس لأنّهم فقراء بل لأنهم معتدلون فهم حتى لو كانوا من الأغنياء فلا يمكن أن يسرفوا، والناس اليوم بين طرفين إما مسرف مبالغ يكثر في جلب الأطعمة والملابس الكثيرة والسيارات وغيرها ويسرف ويبالغ في ذلك، وإما مقتر متصف بصفة الشح والبخل لا يقوم بالواجب لأهله وذريته بل يشدد ويضيق عليهم، والقسم الممدوح هو القسم الثالث الذي يكون إنفاقه بين الإسراف وبين التقتير، فهذه صفة عباد الرحمن أنهم: ) إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ( ، فالاعتدال في الإنفاق هو الحسنة بين السيئتين، قال الحسن البصري الله في هذه الآية: لم ينفقوا أي في معاصي الله، ولم يمسكوا أي عن الإنفاق في فرائض الله تبارك وتعالى([7]) .

وصفة عباد الرحمن الخامسة: بعدهم عن كبائر الذنوب، وحذرهم من عظائم الآثام، فقد ذكر جل وعلا من صفاتهم البعد عن كبائر الذنوب والآثام العظيمة، وخص منها بالذكر البعد عن الشرك بالله وقتل النفس المعصومة والزنا؛ لأنّ هذه الذنوب هي أعظم الذنوب وأكبر الموبقات مع حرص هؤلاء على المبادرة إلى التوبة عند الوقوع في شيء من الذنوب، مع الاستكثار من الأعمال الصالحة، قال سبحانه وتعالى: ) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * ‏ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ‎ * ‏ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ‎ * ‏ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ( ، في البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله: أيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أكْبَرُ؟ قالَ: أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ. قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ أنْ تَقْتُلَ ولَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يَطْعَمَ معكَ. قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: أنْ تُزانِيَ بحَلِيلَةِ جارِكَ» ، وأنزل الله تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ( آخر الآية([8]) ، وفي الصحيحين([9]) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ناسا، من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا محمّدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: ) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ( [الفرقان: 68]، ونزلت ) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ( [الزمر: 53] ، فعباد الرحمن لا يدعون مع الله إلها آخر بل يعبدونه وحده لا شريك له مخلصين له الدين، حنفاء مقبلين عليه معرضين عما سواه، ولا يقتلون النفس التي حرم الله من نفس المسلم والأنفس المعصومة إلا بالحق في قتل النفس بالنفس وغير ذلك، ولا يزنون بل يحفظون فروجهم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، قال سبحانه: ) وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ( أي: الشرك بالله أو قتل النفس التي حرم الله بغير حق أو الزنا ) يَلْقَ أَثَامًا ( أي إثما عظيما فسره بقوله سبحانه: ) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ( ، فهذا وعيد شديد على هذه الذنوب العظيمة، ثم قال سبحانه: ) إِلَّا مَن تَابَ (، أي عن هذه الذنوب والمعاصي بأن أقلع عنها في الحال وتركها وندم على ما حصل منه فيما مضى من فعلها وعزم عزما جازما ألا يعود وآمن بالله إيمانا صحيحا يقتضي ترك معاصي وفعل الطاعات ) وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا ( مما أمر به الشارع إذا قصد به وجه ربه تبارك وتعالى: ) فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( يغفر لمن تاب، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن فتح لهم باب التوبة ووفقهم لأدائها والعمل بها وقبلها منهم، ثم قال سبحانه: ) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ( ، فيه الحثّ على تكميل التوبة وأن تكون على أفضل الوجوه وعلى أجل الأحوال خالصة لله عز وجل حتى ينال بها الأجر الكامل العظيم.

ثم ذكر سبحانه صفة عباده السادسة صفة عباد الرحمن: البعد عن مجالس الباطل والمنكرات، فهم يبتعدون عن مجالس المنكر والغفلة والباطل والضلال، وإذا مروا بشيء من تلك المجالس مرورا كان مرورهم مرور من يكرم نفسه وينزهها عن مجالس اللغو والباطل، قال سبحانه: ) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ( ، فمن صفاتهم أنهم لا يشهدون الزور، والزور هو كل باطل من الشرك وعبادة الأصنام والكذب والفسق واللغو وكذلك قول الزور وشهادة الزور بأن يكذب متعمدا ليأخذ حق غيره أو يضيع حق غيره، ) وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ( فهم لا يحضرون مجالس اللّغو ومجالس الباطل قصدًا وابتداء ولكنهم قد يتفق أحيانا أن يمروا بها بغير قصد، فهم إذا حصل ذلك لم يتدنسوا بشيء منها، وإنما يكون كما قال تعالى: ) مَرُّوا كِرَامًا ( أي: كان مرورهم بحيث لا يتأثرون بها ولا يخوضون فيها، ولا ينزلون مكانتهم العالية إليها، فيكون مرورهم مرورا يسلمون فيه ولا يدخلون فيه بالإثم، فهم لم يقصدوا هذه المجالس، وإنما حصل ذلك عرضا أن مروا عليها فينزهون أنفسهم، ويكرمونها عن الخوض في هذه المجالس مجالس السوء التي تغضب الله تبارك وتعالى.

ثم ذكر عز وجل صفتهم السابعة: أنهم يعظمون كلامه سبحانه وتعالى، ويفقهون كلامه ويتعلمونه ويعملون بما فيه، قال تعالى: ) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ( فإنهم يعظمون آيات الله، ولا يقابلونها بالصد والإعراض بل يكون فعلهم معها حسن الاستماع وكمال الانتفاع، فهم كما قال الله عنهم: ) لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ( فهم بخلاف الكافر الذي إذا ذكر بآيات ربه استمر على حاله وطغيانه كأنه لم يسمعها كحال الأصم الأعمى، فهم يعقلون عن الله عز وجل، وينتفعون بآياته، ويتدبرون هذه الآيات التي أمروا بالاستماع إليها والاهتداء بها، ولم يقابلوها بالإعراض والصمم عن سماعها وصرف النظر والقلوب عنها كحال من لم يؤمن بها ولم يصدق بما أنزل الله تبارك وتعالى، كما قال سبحانه: ) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ( [السجدة :15].

وصفة عباد الرحمن الثامنة: عنايتهم بالدعاء، واجتهادهم في التضرع لله سبحانه وتعالى فهذه من صفاتهم العظيمة، وخصالهم الجليلة أنهم يتوجهون إلى الله تعالى بأكمل الدعاء فيدعون لأنفسهم ولأهليهم ولذرياتهم بما يتحقق لهم به قرة العين وسعادة الدارين، قال تعالى: ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ( ، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم رحمه الله: يعني يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام([10]) ، فيدعون لهم أن يكونوا قرة أعين؛ أن يكونوا أولادا أبرارا أتقياء، فيدعون الله أن يجعلهم صالحين، فتقر أعينهم بذلك، قال القرظي رحمه الله([11]) : ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله عز وجل، ثم يدعون الله ويقولون: ) وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ( يسألون الله أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير، فيسألون الله عز وجل هذه الدرجات العالية، والمنازل الرفيعة وهي درجة الإمامة في الدين، فيكونون قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم يقتدى بأفعالهم، ويطمئن الناس لأقوالهم، ويسير أهل الخير خلفهم، فيهتدون بهداهم، ويتبعونهم في طريق الحق والهدى، وبعد أن ذكر الله عزوجل هذه الصفات العالية والخصال الرفيعة لعباده عباد الرحمن ذكر جزاءهم الذي كان من جنس فعلهم لما علت صفاتهم، واجتهدوا في الأعمال الصالحة والمنازل العالية كان جزاؤهم عظيما عاليا عند الله عز وجل، قال سبحانه عنهم: ) أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ( ، فيجزون الغرفة يدخلون الجنة، تتلقاهم ملائكة الرحمن بالتحيات الطيبة، ولهم في الجنة السلامة الكاملة من المنغصات والآفات، والغرفة كل بناء مرتفع عالٍ، والمراد به الجنة وما فيها من غرف الدر والزبرجد والياقوت فيها بما صبروا، صبروا على أمر الله عز وجل وطاعته وعلى أذى المشركين، وصبروا عن الشهوات فيلقون فيها تحية وسلاما، يسلم بعضهم على بعض ويحيي بعضهم بعضا بالسلام، ويسلم عليهم ربهم تبارك وتعالى: ) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ( ، فهي موضع قرار وإقامة، قال ابن كثير رحمه الله([12]) : لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة، والأقوال والأفعال الجليلة، قال بعد ذلك كله: أولئك أي المتصفون بهذه يجزون يوم القيامة الغرفة وهي الجنة، بما صبروا أي: على القيام بذلك ويلقون فيها أي في الجنة تحية وسلاما أي: يبتدرون فيها بالتحية والإكرام، ويلقون التوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم السلام، فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، وقوله تعالى: خالدين فيها أي مقيمين لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون ولا يزولون عنها، ولا يبغون عنها حولا، كما قال تعالى: ) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( [هود: 108].

فهي حسنت لهم مستقرا ومقاما، حسن منظرها وطاب مكانها وطابت لهم، نسأل الله عز وجل من فضله ومنّه وكرمه، هذه صفات عالية وأخلاق كريمة.

نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم هذه الأخلاق، وهذه الصفات صفات عباد الرحمن، فجدير بكل مؤمن ومؤمنة بعد معرفة هذه الصفات أن يتأملها ويحاسب نفسه عليها، هل أنا مقصر مضيع فيها فأجتهد، هل عندي خطأ وزلل فأتوب إلى الله تبارك وتعالى، هل أنا على طريق الخير فأزيد وأجتهد أكثر في هذه الأعمال الصالحة حتى ترتفع منزلتي ودرجتي عند الله تبارك وتعالى، حريّ بنا أن نحرص على التخلق بهذه الأخلاق وهذه الصفات، أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم من فضله ومنه وكرمه، والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله رب العالمين

http://investigate-islam.com/fwasel/2.gif

ملكة الحنان
09-09-2022, 07:03 PM
جزاك الله كل خير
وجعله الله بميزان حسناتك
ورزقك الله الفردوس الأعلى من الجنه
الله لايحرمنا منك ومن جديدك الشيق

صواديف عشاق
09-11-2022, 07:27 PM
عواافي ع رووعة جلبك الراقي القيم

طبتم خيراًhr6:w6w_ee8:

ريحانة القلب
09-13-2022, 12:33 PM
ممتنة لمروركِ الجميل ملكة
ألف شكر لكِ
:r-R::100 (109)ss::r-R:

ريحانة القلب
09-13-2022, 12:34 PM
ممتنة لمروركِ الجميل صواديف
ألف شكر لكِ
:r-R::100 (109)ss::r-R: